
بقلم / إسلام الشريف
محلل استثمار في BDO Khaled & Co و محلل مالي معتمد من الهيئة العامة للرقابة المالية
في السنوات الأخيرة، أصبح من الواضح أن التجارة العالمية لم تعد مجرد تبادل سلع وخدمات، بل تحوّلت إلى ساحة معقدة لصراع الهيمنة بين القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة والصين. هذا التحول يكشف عن تداخل عميق بين السياسة والاقتصاد، حيث تستخدم كل دولة أدواتها الاقتصادية لتعزيز موقعها الجيوسياسي.
الجذور التاريخية للصراع
يمكن فهم السياق الحالي من خلال العودة إلى ثمانينيات القرن الماضي، حين تدخلت الولايات المتحدة في النظام النقدي العالمي من خلال اتفاقيات مثل “Plaza accord” و”Louvre accord” لضبط قيمة الدولار مقابل العملات الأخرى، في محاولة لمعالجة الاختلالات التجارية.
في تلك المرحلة، كانت الهيمنة الأمريكية شبه مطلقة، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً. لكن الوضع اليوم مختلف تمامًا، حيث ظهرت الصين كقوة صاعدة ترفض البقاء ضمن النظام الذي صممته واشنطن.
الخلل في الميزان التجاري… ليس كما يبدو
تشير البيانات إلى أن الولايات المتحدة تعاني من عجز تجاري مزمن في السلع، خصوصًا مع الصين والاتحاد الأوروبي، مما يدفع البعض للمطالبة بإعادة التصنيع داخليًا.
لكن الصورة الكاملة تُظهر أن أمريكا تسجّل فائضًا كبيرًا في التجارة الخدمية، بفضل تفوقها في مجالات مثل:
- البرمجيات والتكنولوجيا
- التعليم العالي
- السياحة وخدمات السفر
- الاستشارات المهنية
هذا يعكس قوة الاقتصاد الأمريكي في قطاع الخدمات عالية القيمة، والتي يصعب على الدول الأخرى منافستها فيها حتى الآن.
لماذا الإصرار على التصنيع المحلي إذًا؟
رغم أن الفائض في الخدمات يغطي جزءًا كبيرًا من العجز في السلع، إلا أن التركيز على إعادة الصناعات للداخل يعكس قلقًا أعمق من مجرد أرقام الميزان التجاري.
الولايات المتحدة ترى في فقدان صناعات استراتيجية – مثل أشباه الموصلات (Chips) – تهديدًا للأمن القومي، وليس فقط للخزينة العامة.
لذلك نشهد اليوم موجة من السياسات الحمائية، تتضمن دعمًا ضخمًا للمصانع الأمريكية، وفرض قيود على تصدير التكنولوجيا للصين، ومحاولات لإعادة سلاسل التوريد بعيدًا عن آسيا.
الصين… من مصنع العالم إلى منافس استراتيجي
الصين لم تعد فقط “مصنع العالم”، بل أصبحت لاعبًا رئيسيًا في الابتكار والتكنولوجيا.
بدأت في تطوير شرائح إلكترونية متقدمة، وأطلقت نماذج ذكاء صناعيdeep seek تنافس النماذج الغربية ChatGPT
كما أنشأت بنية مالية موازية تشمل:
- مؤسسات تمويل عابرة للحدود
- مبادرة “الحزام والطريق” Belt and Road Initiative
- تحالفات مثل “بريكس” لتقليل الاعتماد على الدولار
هذا التحول جعل الولايات المتحدة تعيد النظر في قواعد اللعبة.
فما كان يُنظر له سابقًا كـ “تكامل اقتصادي” أصبح يُنظر له الآن كـ “اختراق استراتيجي”.
الشركات الأمريكية… خسائر مؤقتة لحماية النفوذ؟
من المثير للانتباه أن العديد من الشركات الأمريكية الكبرى تدعم السياسات الحمائية رغم تأثيرها السلبي على الأرباح قصيرة الأجل.
السبب يكمن في إدراكها أن الحفاظ على الريادة في الصناعات المتقدمة أهم من المكاسب الآنية.
إنه رهان على البقاء في موقع القيادة، بدلاً من التساهل الذي قد يؤدي إلى فقدان التفوق الصناعي والتكنولوجي.
التوقعات: تباطؤ + تضخم + تقلبات
المرحلة المقبلة قد تشهد مزيجًا صعبًا من:
- ركود اقتصادي مصحوب بتضخم (Stagflation)
- اتساع مؤقت في العجز التجاري قبل أن تؤتي السياسات الصناعية أُكلها
- تقلبات حادة في الأسواق نتيجة الغموض السياسي والاقتصادي
كل هذه العوامل تجعل المشهد التجاري العالمي أقل استقرارًا، وتدفع الدول نحو بناء استراتيجيات مستقلة أكثر تحفظًا، بعيدة عن الاعتماد الكامل على “العولمة المفتوحة”.
دور مصر: فرصة استراتيجية وسط التحولات العالمية
في ظل التحولات الجارية في النظام التجاري العالمي، تسعى مصر إلى تعزيز شراكتها الاستراتيجية مع الصين، مستفيدة من موقعها الجغرافي المتميز كبوابة تربط بين آسيا، إفريقيا، وأوروبا. هذا التعاون يتجلى في عدة مجالات:
- الاستثمار في المنطقة الاقتصادية لقناة السويس (SCZone): تعد المنطقة الاقتصادية لقناة السويس محورًا رئيسيًا للاستثمارات الصينية، حيث تجاوزت الاستثمارات الصينية فيها 3 مليارات دولار، مما يعزز من دور مصر كمركز صناعي ولوجستي إقليمي.
- توسيع التعاون في البنية التحتية والطاقة: وقعت مصر والصين اتفاقيات متعددة في مجالات البنية التحتية والطاقة، بما في ذلك مشروع مجمع صناعي بقيمة 1.65 مليار دولار في المنطقة الاقتصادية لقناة السويس.
- الاندماج في مبادرة الحزام والطريق: تشارك مصر بفعالية في مبادرة الحزام والطريق الصينية، مما يعزز من مكانتها كمحور لوجستي يخدم التجارة الدولية، خاصة في ظل الجهود المبذولة لتطوير البنية التحتية وربط الموانئ التجارية.
- التعاون في مجال التكنولوجيا والاتصالات: تسعى مصر والصين إلى تعزيز التعاون في مجالات التكنولوجيا المتقدمة، بما في ذلك مشاريع في مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، مما يفتح آفاقًا جديدة للاستثمار ونقل التكنولوجيا.
هذا التعاون المتنامي يعكس إدراك مصر لأهمية تنويع شراكاتها الاقتصادية والاستفادة من الفرص التي تتيحها التحولات الجيوسياسية العالمية، مما يعزز من قدرتها على تحقيق التنمية المستدامة وتعزيز مكانتها في سلاسل التوريد العالمية.