انجـــــــــــي حـــــــراز – مدير عام الخدمات المصرفية الرقمية بالبنك الأهلي المصري و رئيس لجنة الخدمات الرقمية باتحاد بنوك مصر
يمر الاقتصاد العالمي حاليا بفترة بالغة الأهمية بدأ فيها التعافي نسبيا من تداعيات جائحة كورونا التي مثلت صدمة كبري لكافة الاقتصادات بانعكاساتها السلبية التي اعتبرت الأسوأ منذ أزمة الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي. ووفقا لتقديرات البنك الدولي من المتوقع أن ينمو الاقتصاد العالمي بمعدل 5.6% عام 2021، إلا أن هذا الانتعاش يبدو متفاوتا، حيث أن العديد من اقتصادات الأسواق الناشئة والبلدان النامية لا تزال العقبات التي تعترض حملات التطعيم فيها تلقي بظلالها على النشاط الاقتصادي، ولا تزال التوقعات العالمية عرضة لمخاطر كبيرة، بما في ذلك احتمال تفشي موجات جديدة من فيروس كورونا، والضغوط المالية، ومن ثم أصبح لزاماً على كل القطاعات الاقتصادية أن تتعامل بشكل احترافي مع الأزمة لضمان استمرارية ونمو الأعمال، وكذلك التكيف السريع مع المشهد المتغير باستمرار.
فعلى الرغم من التأثيرات السلبية غير المسبوقة للجائحة واعتبارها تحدي كبير للمجتمع الدولي، إلا إنها لا تخلو من فرص يمكن استغلالها ويجب التحرك لاغتنامها، حيث أنها فرضت واقعاً مختلفاً لاقتصادات الدول قد يؤدى إلى تغيير خريطة الاستثمار والأعمال خلال السنوات المقبلة. وقد مثلت التكنولوجيا اللاعب الرئيسي لدى كافة القطاعات الاقتصادية بوجه عام والقطاع المصرفي بوجه خاص في مواجهة الأزمة، حيث إن الابتكارات التكنولوجية التي استخدمتها البنوك، مكّنت العملاء من الحصول على الخدمات المالية دون الحاجة إلى الاتصال المباشر مع العميل، كما ساهمت في جذب شريحة جديدة من العملاء.
وفي هذا الإطار يعتبر قطاع التكنولوجيا المالية من القطاعات الواعدة التي تمتلك فرصا كبيرة خاصة فيما يتعلق بالقطاع المصرفي ودوره في تعزيز الشمول المالي والتحول الرقمي وهو ما يتطلب تخصيص مزيد من الاستثمارات على البنية التكنولوجية والأمن السيبراني. وقد شهد النصف الأول من عام 2021 ارتفاع قيمة الاستثمار العالمي في التكنولوجيا المالية لتناهز 98 مليار دولار عبر 2456 صفقة، وذلك وفقا لتقرير KPMG’s Pulse of Fintech. كما انه من المتوقع أن يقفز الإنفاق العالمي على أمن المعلومات وخدمات إدارة المخاطر التقنية إلى 151 مليار دولار خلال 2021 بزيادة سنوية قدرها 12.4% بحسب تقرير لشركة جارتنر للتقنية.
ومن المتوقع أن تساهم الأزمة في تطوير شكل نماذج الأعمال، والخدمات المصرفية المقدمة، وتحفيز العملاء على استخدام الخدمات الرقمية، وتعزيز خطط البنوك بشأن الخدمات المصرفية المقدمة مستقبلا، حيث أنه على الرغم من أن الجائحة شكّلت تحدياً كبيراً للبنوك العالمية، إلا أنها ساهمت فى حدوث طفرة فى تحول البنوك للاعتماد على الخدمات المصرفية الرقمية وإعادة تصميم المنتجات والعمليات بشكل يضمن استمرارية الأعمال، فعلى سبيل المثال، ذكرت “ماكينزى” في بداية الأزمة إن الصناعة المصرفية قفزت خمس سنوات إلى الأمام في تبنى المستهلكين الأعمال الرقمية في غضون ثمانية أسابيع فقط.
كما سيشكل تمكين الشركات الناشئة ورواد الأعمال، وتعزيز النشاطات الاقتصادية الرقمية كتلك العاملة في مجالات تكنولوجيا الرعاية الصحية، وتكنولوجيا المؤسسات المالية، واللوجستيات، وحلول العمل عن بعد والتواصل الرقمي متضمنة عقد المؤتمرات ومنصات العمل الافتراضية والبريد الإلكتروني والتطبيقات عبر الهاتف المحمول، أولوية أساسية ودعامة مهمة لمستقبل اقتصاد مستدام، وهو ما سيتطلب التركيز على تحليل البيانات الضخمة، والذكاء الاصطناعي، خاصة في تحديد المنتجات المستهدفة وتحديد أولويات العملاء والانماط الاستهلاكية، واكتشاف ومنع الاحتيال، وتحديد الجدارة الائتمانية.
ومن المتوقع أيضاً استمرار نشاط الاندماج والاستحواذ في قطاع التكنولوجيا المالية عالميا في الارتفاع بشكل كبير حيث تتطلع الشركات إلى تعزيز قدراتها التنافسية لتتماشي مع التطورات العالمية المتسارعة وتغيرات اتجاهات العملاء. وقد شكل قطاع التكنولوجيا نحو 22% من جميع أنشطة صفقات الدمج والاستحواذ حول العالم بنحو 800 مليار دولار منذ بداية عام 2021، ما يمثل أكثر من ثلاثة أضعاف القيمة المسجلة في العام الماضي.
كما أن “شركات الاستحواذ ذات الغرض الخاص” SPACs من المنتظر أن تحصد المزيد من الاهتمام، وهو ما يعزي إلى التوجه السريع نحو النمو بوتيرة أسرع خاصة في قطاع التكنولوجيا ، فيما سيكتسب الأمن السيبراني أهمية متزايدة نظرًا لارتفاع المعاملات الرقمية والارتفاع اللاحق في الهجمات الإلكترونية.
وفي ظل هذا المشهد العالمي المتغير، لم تكن مصر بمنأى عن تلك التطورات، فعلي صعيد الاقتصاد الكلي أتاح برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي نفذته قدرًا كبيراً من الصلابة والمرونة في التعامل مع التحديات والصدمات الداخلية والخارجية، وعلى النحو الذي أسهم في الحفاظ على ما تحقق من مكتسبات للإصلاح، والحفاظ على المسار الاقتصادي الآمن، وهو ما شهد إشادات متعددة من كبري المؤسسات ووكالات التقييم الدولية.
وعلى صعيد التحول الرقمي فقد شكل حجر الزاوية وأظهر أهمية كبيرة خلال الأزمة، حيث قطعت مصر شوطا كبيرا وأضحي التحول الرقمي هو الأساس الذي تعتمد عليه الدولة بالارتكاز على بنية تكنولوجية قوية ومتطورة، وإطار تشريعي مدعم، ومن خلال تبني استراتيجية شاملة تستهدف الاعتماد على المدفوعات الرقمية كأداة رئيسية لتعزيز الشمول المالي والتحول إلى الاقتصاد غير النقدي.
وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن قرار الرئيس عبد الفتاح السيسي في فبراير 2017 بإنشاء المجلس القومي للمدفوعات أعطى دفعة كبيرة نحو خفض استخدام النقد خارج القطاع المصرفي ودعم وتحفيز استخدام الوسائل والقنوات الإلكترونية في الدفع، وتطوير نظم الدفع القومية وتخفيض تكلفة انتقال الأموال.
وأثبتت الجائحة الرؤية الثاقبة التي وضعتها الدولة والبنك المركزي لاستراتيجية التحول الرقمي التي أصبحت إلى جانب كونها هدف قومي ضرورة تحتمها الظروف الحالية، وسارع المركزي بإصدار العديد من الضوابط والاجراءات للحد من التعاملات النقدية وتيسير استخدام وسائل وأدوات الدفع الالكتروني.
ومن منطلق دور البنك المركزي كمحفز لعملية التطوير وداعم لصناعة التكنولوجيا المالية، فقد قام بوضع استراتيجيه متكاملة للنهوض بمنظومة التكنولوجيا المالية بما يتوافق مع رؤية مصر 2030، لتصبح مقومًا أساسيًا من مقومات الخطة المتكاملة لتحويل مصر إلى مركز إقليمي لصناعة التكنولوجيا المالية في المنطقة العربية وإفريقيا، وحدد عدة مبادرات رئيسية منها تأسيس صندوق دعم ابتكارات التكنولوجيا المالية كمنصة استثمارية جديدة بالتعاون مع عدد من المؤسسات المحلية والدولية، وانشاء مختبر تطبيقات التكنولوجيا المالية.
كما قام بوضع قواعد منظمة لتقديم الخدمات المصرفية عبر القنوات الإلكترونية المختلفة “الهواتف المحمولة والإنترنت” لجذب شريحة كبيرة من العملاء، وتنفيذ حملات للتوعية بالشمول المالي والخدمات المالية المصرفية والتكنولوجي. وتتويجا لهذه الجهود تم اصدار القانون الجديد للبنك المركزي والجهاز المصرفي في إطار منظومة الاصلاح التشريعي التي تتبناها الدولة في مجال التحول الرقمي. وفي هذا الإطار أكد تقرير “دليل التكنولوجيات المالية في المنطقة العربية” الصادر عن صندوق النقد العربي، أن مصر ضمن الدول التي يدير بنكها المركزي عملية التحول إلى اقتصاد غير نقدي بنجاح.
وقد سعت البنوك المصرية إلى تقديم أحدث الخدمات المصرفية التي تتوافق مع التحول الرقمي وتدعم الشمول المالي، مقدمة أحدث تقنيات الدفع بهدف دعم وتحفيز استخدام أدوات الدفع الإلكترونية. واستمر البنك الأهلي المصري في دوره الرائد علي مستوي القطاع المصرفي، وقدم دوراً بارزاً في عملية التحول الرقمي في مصر خاصة في ظل الاستراتيجية التي ينتهجها بهدف تفعيل قرارات وأهداف المجلس القومي للمدفوعات الالكترونية ودعم توجهات البنك المركزي ، مقدما العديد من المنتجات والخدمات المصرفية الرقمية منها خدمة الانترنت البنكي للأفراد والشركات والتي بلغ عدد مشتركيها حالياً من الأفراد 5.9 مليون عميل بحجم معاملات ناهز 420 مليار جنيه ، فيما بلغ عدد الشركات نحو 63 ألف شركة بحجم معاملات بلغ نحو 38 مليار جنيه ، وكذلك تم تقديم خدمة تحويل أموال العاملين بالخارج من خلال التليفون المحمول ليتم صرفها لحظيا من خلال شبكة الصراف الآلي، بالإضافة إلي اتاحة التحويل اللحظي إلي البطاقات المدفوعة مقدما من خلال ماكينات الصراف الآلي .
واستمرارا لدعم المنظومة الرقمية تم إطلاق تطبيق الموبايل البنكي في مطلع 2020، بالإضافة إلى إطلاق خدمة رمز الاستجابة السريع من خلال المحفظة الالكترونية ” الأهلي فون كاش” والتي بلغت عدد محافظها 1.7 مليون محفظة، مع التركيز علي اجتذاب المزيد من الشباب وغير المتعاملين مع الجهاز المصرفي من خلال العديد من القنوات والمنتجات وليستحوذ البنك علي 60% من حجم التجارة الالكترونية بالسوق المصرية.
كما كان للبنك الأهلي المصري الريادة نحو التوجه نحو انشاء الفروع الالكترونية استمرارا لدوره الريادي في القطاع المصرفي، حيث كان له السبق في افتتاح أول فرع للخدمات الالكترونية المتكاملة في مصر في مطلع عام 2019، سعيا إلى إتاحة نموذج متطور من الفروع تقدم بعض الخدمات المصرفية بالكامل إلكترونياً للعملاء من خلال قنوات بديلة دون الاستعانة بتدخل بشري كامل. واستمر في هذا التوجه ليصل عدد النقاط الالكترونية حاليا إلى 27 نقطة، والتي من المستهدف أن تصل إلى 30 نقطة بنهاية عام 2021.
أخيرا، فقد أصبحت القدرات الرقمية محركا رئيسيا للقدرات التنافسية، وهو ما سيتطلب التركيز علي تطوير استراتيجيات لاستغلال كافة الفرص المتاحة، مع التطوير المستمر لبنيه تكنولوجية ملائمة، وتوفير منتجات وخدمات رقمية مرنة تلائم حاجة العملاء في ظل واقع يتسم بالتغيرات السريعة، وأهمية تعزيز وبناء قدرات الكوادر البشرية باعتبارها مُكوناً أساسياً فى عملية التحول الرقمي لا يقل أهمية عن تطوير البنية التحتية والتكنولوجية.