لقد شهد العالم ولا يزال يشهد تحولات وتطورات كبيرة في جميع المجالات، كما شهد ولا يزال يشهد تحديات وعقبات لها أثر كبير على الاقتصاديات المحلية والعالمية. لقد أدت تلك التغيرات والتحديات إلى تغيرات جذرية في التوجهات الفكرية للمؤسسات، فعلى سبيل المثال نرى المؤسسات المختلفة، نتيجة للظروف الأخيرة التي فرضتها جائحة كورونا، تتجه نحو تبني مفهوم العمل عن بعد وبعد أن كانت مؤسسات عدة تهتم بمتابعة حضور وانصراف الموظفين وتضمين معدل الحضور والانصراف في مؤشرات الأداء الرئيسية واعتباره من ضمن العوامل التي تشير إلى مدى التزام الموظف أو عدم التزامه، تحول الفكر الإداري وأصبح هناك تقبل لفكر جديد. بل إن بعض المؤسسات شهدت ارتفاعاً في معدلات الأداء نتيجة لهذا الفكر الجديد.
لقد كان لجائحة كورونا أثر عظيم على العالم بأكمله، يرى معظم الناس الجانب المظلم لها فقط إلا أنه كان لها جانب آخر أكثر إشراقاً؛ فقد حدثت تحولات في الفكر الإداري وتعظيم للاستفادة من التكنولوجيا والتركيز على الأفراد وما إلى ذلك. واكتشفت بعض المؤسسات وجود بعض العوائق الداخلية التي أخرت استجابتها للظروف مثل عدم وجود بنية تحتية تكنولوجية مناسبة أو عدم إلمام بعض الموظفين، خاصة كبار الموظفين، بأسس التعامل مع التكنولوجيا، بل كان هناك قدر لا بأس به من الهجوم على الطرق المستحدثة بحجة أن التكنولوجيا لا يمكن أن تستبدل الطرق التقليدية للتفاعل بين الأفراد. لقد أدت تلك الظروف إلى فرض بعض التغيرات التي إن لم تستجب لها المؤسسات فإنها لن تستطيع البقاء.
إذن ….، لا شك في أن التغيير ليس سهلاً، وفي كثير من الأحيان له متطلباته وثمنه، لكنه قد يسفر عن عظيم استفادة. وقد تكون تلك الاستفادة جلية واضحة كما قد تكون خفية مستترة لا تظهر إلا بالتجربة والتطبيق العملي، ومثلما حدث استجابة للظروف الأخيرة كانت هناك تغيرات وتطورات في مجال الموارد البشرية عامة وفي مجال قياس الكفاءات الفردية خاصة إلا أنها لم تلق حظاً وافراً من الدعم والقبول في المؤسسات العاملة في السوق المصري. كانت مراكز القياس من ضمن تلك التطورات والتحديثات التي على الرغم من نتائجها وآثارها لم تلق قبولاً واسعاً من المؤسسات والأفراد.
أبدأ هنا بتسليط الضوء على مميزات مراكز التقييم أو القياس بالنسبة للمؤسسات ثم أنتقل إلى مميزاته بالنسبة للأفراد، وأبدأ بالمؤسسات:
لا شك أن مراكز التقييم أو القياس تؤثر إيجابياً على المدى المتوسط والطويل على أرباح المؤسسة، كيف يكون ذلك؟ قد تنظر المؤسسات إلى تكلفة مراكز التقييم أو القياس المباشرة من حيث تكلفة المقيمين وتكلفة الأدوات المستخدمة والوقت المستغرق ومصروفات إيجار مكان انعقاد مركز التقييم أو القياس، لكن تلك التكاليف قد تكون بخسة إذا ما نظرنا إلى تكلفة البديل؛ فبالمقارنة بين حالتين؛ الحالة الأولى لمؤسسة لجأت لاستخدام مراكز القياس أو التقييم عند البحث عن أنسب المرشحين لوظيفة ما والحالة الثانية لمؤسسة اعتمدت الطرق التقليدية نجد أن المؤسسة الأولى قد أضافت بعداً جديداً لعملية الاختيار وهو اختبار الكفاءات غير الفنية التي يظهر أثرها مع الوقت وبالاحتكاك المباشر وغير المباشر؛ فماذا لو كانت المؤسسة قد اختارت مرشحاً بناءاً على كفاءته الفنية البادية في سيرته الذاتية والتي ظهرت خلال المقابلة الشخصية معه، ثم تبين بعد ذلك أنه يحتاج إلى تطوير مهاراته في التواصل، قد تضطر المؤسسة إلى تطوير هذا الموظف بإرساله لحضور دورة تدريبية ثم متابعة تطويره داخلياً حتى يصل للمستوى المنشود أو قد تلجأ إلى صرف هذا الموظف وإعادة عملية البحث والتوظيف من البداية. ألا ينطوي ذلك على تكلفة؟
ماذا لو أرادت المؤسسة اختيار أحد المرشحين للترقي لمنصب أعلى وكان المنصب الجديد يتطلب من الموظف الاحتكاك المباشر بالعملاء، فقامت بإجراء مركز تقييم أو قياس قبل الترقي فاكتشفت احتياج بعض المرشحين إلى تطوير في هذه الكفاءة، واكتشفت جاهزية أحد الموظفين لهذا المنصب، ألن يتيح ذلك الاكتشاف المبكر إجراء اختيار أفضل وبالتالي توفير الوقت والمال والجهد؟ وماذا إن لم تلجأ المؤسسة لاختبار الكفاءات غير الفنية فاختارت أحد المرشحين بناءاً على الكفاءة الفنية ثم تبين مع الوقت احتياج هذا الموظف لتطوير في أحد جوانب كفاءة التعامل مع العملاء، ألن يؤدي ذلك إلى ارتفاع تكلفة التدريب والتطوير أو إعادة الاختيار؟ ألن يؤثر ذلك سلباً على عملاء المؤسسة وقد يمتد ذلك الأثر إلى سمعة المؤسسة؟
ماذا لو أرادت المؤسسة تدريب وتطوير موظفيها، فاختارت اللجوء لمركز تقييم أو قياس لتحديد الاحتياجات التدريبية مسبقاً، وقامت بتقسيم الموظفين وفقاً لاحتياجاتهم، وإخضاع كل موظف للتدريبات التي يحتاج إليها فقط؟ ألن يؤدي ذلك إلى تعظيم العائد على الاستثمار وتوجيه أوجه الصرف على التدريب بالشكل الأمثل؟ وماذا إن اعتمدت المؤسسة الشكل التقليدي فأرسلت جميع موظفيها أو جميع موظفي إدارة معينة لحضور تدريب معين، هل يعتبر ذلك قراراً سديداً، ألن يكون من ضمن الحاضرين من يتواءم مستوى كفاءته مع احتياج المؤسسة أو يزيد عنه؟ ألن يمثل ذلك تكلفة ضائعة؟
ماذا لو أخضعت المؤسسة موظفيها لمركز تقييم أو قياس فاكتشفت فيهم درراً كامنة ظهرت أثناء مركز القياس، ألن ييسر لها ذلك إجراء توسع وظيفي أو إثراء وظيفي؟ ألن يمكنها ذلك من نقل الموظفين إلى وظائف أكثر تناسباً مع طبيعة شخصيتهم وكفاءاتهم وبالتالي رفع مستوى رضاهم الذي ينعكس إيجابياً على أدائهم؟ وماذا لو لم تلتفت المؤسسة لذلك وتركت الموظفين في أماكنهم بدون محاولة تعظيم الاستفادة منهم، هل يعد ذلك أفضل استثمار؟
أما بالنسبة لمميزات مراكز التقييم أو القياس بالنسبة للأفراد:
ماذا لو أن المؤسسة التي تعمل بها قررت اللجوء لمركز تقييم أو قياس لتقيم كفاءتك، ووجدت أنك أثناء مركز التقييم أو القياس تقابل عدد من المقيمين المختلفين الذي يتفقون في النهاية على درجة كفاءتك، ألن يعكس ذلك مصداقية ودقة التقييم؟ لا بد من أن اتفاق أكثر من شخص على درجة كفاءة معينة يعتبر أكثر دقة من إجراء التقييم بواسطة شخص واحد. ناهيك عن أن هؤلاء المقيمين لا يعرفونك ولا تربطك بهم أية صلة مما يزيد من المصداقية.
ماذا لو علمت أنه خلال مراكز التقييم أو القياس يعتمد المقيمون على أدوات ثابتة وموضوعية للتقييم ولا يعتمدون على آرائهم وأحاسيسهم الشخصية، ألن يشعرك ذلك بالراحة تجاه نتيجة التقييم؟
ماذا لو أخبرك أحد المقيمين خلال جلسة التعقيبات عن أنك تميزت خلال مركز التقييم في كفاءة معينة، على سبيل المثال التحدث أمام الحضور، لكنك لم تعلم ذلك من قبل لأن طبيعة عملك لا تتيح لك ذلك؟ ألن يتيح لك ذلك فرصاً جديدة لتوسيع مجالاتك؟
ماذا لو علمت أنك أثناء مركز القياس ستقابل أشخاصاً لأول مرة يقومون بتقييم كفاءتك غير الفنية، ألن يعفي ذلك رئيسك المباشر من الحرج؟ ألن يؤدي ذلك إلى إزالة أحد أسباب الخلاف بين الرؤساء والمرؤوسين ويساهم في توفير بيئة عمل أكثر راحة؟
ماذا لو أشار عليك أحد المقيمين بالسعي لتطوير كفاءة معينة، ألا يساهم ذلك في تعظيم استفادتك من وظيفتك الحالية وزيادة فرصتك في الترقي إلى منصب أو مناصب أعلى؟ ألن يساعدك ذلك في تركيز جهودك على الكفاءات التي تحتاج إلى تطوير بدلاً من تشتيت جهودك في جميع الاتجاهات؟
ماذا لو كنت مرشحاً لتولى منصب ينطوي على مهام جديدة لم تكن قد قمت بها من قبل وشعرت بالحيرة بشأن قدرتك على القيام بهذه المهام، ألن يساعد مركز التقييم في إجابة بعض الأسئلة التي تحيرك؟ ألن يساعدك ذلك في توقع مدى نجاحك في المنصب الجديد؟
ماذا لو علمت ان مراكز التقييم أو القياس تقلل من أخطاء تقييم الأداء المرتبطة بالطريقة التقليدية مثل تأثير الهالة حيث يميل الرئيس المباشر لتكوين انطباع إيجابي أو سلبي عن مرؤوسيه على أساس أحد ملامح شخصيته أو أحد مجالات أدائه فقط دون إدراك باقي عناصر الشخصية أو مجالات الأداء، أو التقييم القاسي أو العنيف حيث يميل الرئيس المباشر إلى إعطاء تقديرات منخفضة للكفاءة أو التحيز الشخصي حيث يميل بعض الرؤساء إلى تقييم المرؤوسين متأثرين تماماً ببعض قيمهم الشخصية وإحساساتهم ومشاعرهم (حب/ كراهية الآخرين).
لا شك أن مراكز التقييم أو القياس مثلها مثل جميع الأدوات المستخدمة لقياس مؤشرات الكفاءة الشخصية قد تعاني من بعض التأثيرات التي قد تنعكس في النهاية على نتيجة التقييم أو القياس، إلا أن الدراسات أثبتت أنه وحتى وقتنا هذا أنها أدق الأدوات التي استحدثها الإنسان لقياس الكفاءة، وربما يتاح لي الكتابة عن تلك التأثيرات والاحتياطات التي تتخذ لتقليل أثرها إلى أقصى حد ممكن في وقت آخر.
أترككم في رعاية الله