
أ/ مصطفى منصور محمود- باحث مصرفي، حاصل على ماجستير إدارة الأعمال في التمويل والاستثمار (MBA)
تُشكّل المنشآت الصغيرة والمتوسطة SMEs)) العمود الفقري للاقتصادات الناشئة، ومع ذلك تُعد واحدةً من أكثر القطاعات التي تواجه تحديات بالنسبة للبنوك عند تقييم الجدارة الائتمانية. غالبًا ما تكون قوائمها المالية ناقصة، وتتميز تدفقاتُها النقدية بالتقلب، وتتعرض لصدمات اقتصادية بدرجة أكبر. لعقودٍ، اعتمدت نماذج التقييم الائتماني للمنشآت الصغيرة والمتوسطة على القرارات المرتكزة على حكم الأفراد، وجداول نقاط مبنية على قواعد ثابتة، وبيانات مكاتب الائتمان المحدودة وكموروث تقليدي، أدت هذه الأساليب إلى بطء في اتخاذ القرار، وارتفاع معدلات الرفض، وتقييد الشمول المالي.
في السنوات الأخيرة، بدأ الذكاء الاصطناعي (AI) وتعلّم الآلة (ML) يعيدان تشكيل هذا المشهد. ما بدأ تحسينًا تدريجيًا في عمليات الائتمان تحوّل إلى تغيير هيكلي في كيفية تقييم المخاطر، وتخصيص رأس المال، وإدارة محافظ .المنشآت الصغيرة والمتوسطة. وفي مصر، كان هذا التحول واضحًا بشكل خاص مع تسريع القطاع لتحوله الرقمي.
لماذا بلغت أساليب التقييم التقليدية للمنشآت الصغيرة والمتوسطة حدودها؟
تعتمد النماذج التقليدية بشكلٍ كبير على القوائم المالية المدققة والضمانات والسلوك التاريخي لسداد الديون، وتواجه صعوبة في البيئات التي تكون فيها المستندات مجزأة أو متأخرة. تشير الدراسات إلى أن البنوك المصرية لا تزال تقضي وقتًا كبيرًا في تسوية السجلات المالية الناقصة و الفحص اليدوي لطلبات المنشآت الصغيرة والمتوسطة. يؤدي ذلك إلى تفاوت في القرارات، واختناقات تشغيلية، ووجود عنصرٍ كبير من الذاتية في عملية اتخاذ القرار. وحتى مع دعم مكتب الائتمان الوطني مثل “I-Score”، فإن السرعة والدقة المطلوبتين في بيئة .الإقراض الحالية فاقتا قدرات الأنظمة القائمة على القواعد الثابتة
كيف يغيّر الذكاء الاصطناعي طريقة التقييم الائتماني؟
يقدّم الذكاء الاصطناعي وتعلّم الآلة نهجًا مختلفًا جذريًا في التقييم الائتماني نهجًا يتعلّم من البيانات بدلًا من الاتباع الحرفي لقواعد ثابتة. تتنبأ نماذج التعلم الموجَّه باحتمالات التعثر استنادًا إلى الأنماط التاريخية، بينما تُستخدم التقنيات غير الموجَّهة لاكتشاف الحالات الشاذة، وتجميع المنشآت بحسب التشابه السلوكي، والكشف عن مؤشرات قد تدل على احتيال أو ضائقة مالية. كما تمكّن معالجة اللغة الطبيعية (NLP) البنوك من استخراج رؤى .من المستندات غير المهيكلة، مما يثري المدخلات البياناتية بما يتجاوز القوائم التقليدي
يتيح هذا العمق التحليلي للبنوك الانتقال من تقييماتٍ استعادية إلى مراقبة مخاطرٍ في الزمن الحقيقي. تعمل نماذج تعلم الآلة على تحسين نفسها باستمرار، متكيِّفةً مع التغيرات في ديناميكيات القطاعات والدورات الاقتصادية وسلوك المقترضين. والأهم من ذلك أن هذه الأنظمة توسع تعريف “الجدارة الائتمانية” لتشمل معاملات نقاط البيع، وتدفقات الحسابات، والبصمات الرقمية البديلة وهو تحول ضروري في أسواقٍ تعمل فيها العديد من .المنشآت بشكلٍ غير رسمي
دليل من القطاع المصرفي المصري
بدأ القطاع المصرفي المصري بالفعل في إظهار القيمة الملموسة لتقييم الائتمان المدعوم بالذكاء الاصطناعي. فعلى سبيل المثال، أدت شراكة (I-Score) مع شركة Modefinance International إلى إدخال نظام تصنيف قائم على الذكاء الاصطناعي لتقييم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، بينما تُوسّع التعاونات مع Synapse Analytics هذا التقدّم عبر منصات تدمج بيانات المكاتب الائتمانية مع مصادر معلومات بديلة عبر المؤسسات المختلفة، حقّق الذكاء الاصطناعي نتائج متكررة في ثلاثة محاور رئيسية: تسريع اتخاذ القرار، توسيع شمول المنشآت الصغيرة والمتوسطة، وتحسين أداء المحفظة من حيث التعثر.
الدقة والعدالة وحتمية الحوكمة
يثير صعود الذكاء الاصطناعي في التقييم الائتماني بطبيعة الحال أسئلة تتعلق بالموثوقية والعدالة. تُظهر الدراسات التجريبية في مصر أن نماذج تعلم الآلة مثل Random Forestو XGBoost تتفوّق على التقنيات الإحصائية التقليدية عند تدريبها على بياناتٍ عالية الجودة وممثلة. ومع ذلك، فإن النماذج قد ترث تحيّزات من بياناتها التاريخية. فإذا كانت البيانات الأساسية تميل إلى مناطق أو قطاعات أو خصائص شركات معينة، فقد تُكرّر توقعات النماذج هذه الفوارق.
لذلك أصبحت الشفافية وقابلية التفسير أمرين أساسيين. توفر الأدوات الحديثة، من قيَم SHAP إلى تشخيصات أهمية المتغيرات، رؤيةً للمُشرِّعين وموظفي الائتمان حول العوامل المؤثرة في كل قرار. وعند إقرانها بقيود عدالة وأطرات حوكمة بيانات صارمة، يمكن لنماذج الذكاء الاصطناعي أن تحافظ على الدقة دون التضحية بالإنصاف أو الامتثال التنظيمي.
العوائق المتبقية
رغم التقدّم المأمول، تظل تحديات قائمة. بيانات المنشآت الصغيرة والمتوسطة لا تزال ناقصة وغير متجانسة. وقد يكون دمج أنظمة الذكاء الاصطناعي مع منصات قديمة مثل أنظمة المصارف الأساسية عمليةً معقّدة من الناحية التشغيلية. و والأطرات التنظيمية الخاصة بالقرارات الآلية وخصوصية البيانات وعدالة الخوارزميات لا تزال في طور التطور. وداخل البنوك، يشكّل نقص الخبرة في مجال الذكاء الاصطناعي عائقًا أمام التوسع في أنظمة متقدمة.
وما وراء العقبات التقنية توجد عقبة بشرية: وهي بناء الثقة. يحتاج موظفو الائتمان، وعملاء الشركات الصغيرة والمتوسطة، والجهات التنظيمية إلى وضوح بشأن كيفية اتخاذ القرارات، وكيفية التحقق من نماذجها، وكيفية التعامل مع الاستثناءات.
نظرة مستقبلية: الحتمية الاستراتيجية
ستعود مستقبلية تمويل المنشآت الصغيرة والمتوسطة في مصر للمؤسسات القادرة على مواءمة التحليلات المتقدمة مع حوكمة متينة وتنسيق تنظيمي فعال. بدأ المتبنون الأوائل يحققون ميّزات في السرعة وجودة المحفظة والوصول إلى العملاء. ستكون أفضل المراكز قيادةً من يتحرّك بدءًا من تجارب محكمة (pilots)، ويستثمر في بنية بيانات قوية، ويُدرج أدوات القابلية للتفسير داخل سير العمل.التقييم الائتماني المدعوم بالذكاء الاصطناعي ليس بديلاً عن الخبرة البشرية، بل امتدادٌ لها. عندما يُدمَج داخل أطر مخاطرة منضبطة، يوفّر الذكاء الاصطناعي مسارًا نحو إقراض أكثر شمولاً وكفاءة ومرونة. وبالنسبة للبنوك التي تطمح للتوسّع في قطاع المنشآت الصغيرة والمتوسطة، لم يعد السؤال عما إذا كان ينبغي اعتماد الذكاء الاصطناعي، بل مدى سرعة بناء الأسس اللازمة للقيام بذلك بمسؤولية.



