شريف عز الدين – استشاري تطوير أفراد
في مجال مراكز القياس، وفي كثير من الأحيان إن لم يكن في أغلبها يطلب العملاء من المقيمين إجراء مقابلات مع الموظفين الذين مروا بتجربة قياس الجدارات أو الكفاءات غير الفنية وذلك لاطلاعهم على ما لاحظه المقيمون أثناء مركز القياس من نقاط قوة تجدر الاستفادة منها والتمسك بها وتعظيمها ومساحات تطوير يجدر العمل عليها لتنميتها وتحسينها وتطويرها.
وقد قمت بنفسي بإجراء المئات بل ربما الآلاف من تلك المقابلات تعرفت خلالها على أحد الموظفين الذي شكا إليَ من وضعه في المؤسسة التي يعمل بها؛ الموظف الخفي. لا أقصد هنا ذاك الموظف الغير مرئي من قبل أقرانه أو الذي يتخفى وراء مكتبه ويختبئ من الآخرين ومن المديرين على وجه التحديد، وإنما أقصد ذاك الموظف الذي يتحمل مسئولية مهامه من الألف إلى الياء؛ لا يأتيك شاكياً متباكياً ولا يطلب منك المساعدة ولا يسألك في كل كبيرة وصغيرة. كل ما عليك القيام به هو تكليفه بمهمة ونسيان الأمر، فتجده قد أتم المهمة على أكمل وجه بل وربما يتم مهمته بأفضل مما كنت تتوقع.
لماذا شكا إليَ هذا الموظف حاله؟ لأنه من أنصار مقولة “دعونا نعمل في صمت” ولأنه لا يُحدِث الكثير من الجلبة فلا يتذكره أحد، لا يفكر أحد في شكره وتقديره، لا يتذكره أحد عند منح المكافآت والزيادات، لا يتذكره أحد في وقت الترقيات، يتذكره رؤساؤه فقط عند توزيع المهام ولأنه يتقبل المهام بصدر رحب ولديه قدر هائل من التحدي الداخلي “الخفي” فعادة ما يتحمل الكثير والكثير، كما يضعونه عادة على رأس قائمة المستغنى عنهم إذا ما ارتأت الشركة تخفيض عدد العمالة.
في الحقيقة أثارت شكواه قدراً هائلاً من التساؤلات في ذهني والتي، وأصدقكم القول، لم أتمكن من الإجابة عليها بشكل قاطع، منها أين تكمن المشكلة؟ هل يعتبر هذا الموظف أصلاً قيماً من أصول المؤسسة أم يعتبر عبئاً عليها؟ كيف يتمكن هذا الموظف من تعديل وضعه وهل هي مسئوليته أم مسئولية غيره ممن حوله؟ هل ترجع أسباب ما يعاني منه إليه أم إلى المؤسسة التي يعمل بها أم إلى رؤسائه أم إلى المجتمع المحيط به؟
ها أنا أضع أمامكم ملخص شكوى هذا الموظف وعينة من التساؤلات التي مرت بذهني، كما أضع أمامكم ما توصلت إليه من إجابات عن الأسئلة التي ذكرناها آنفاً.
بالنسبة للسؤال الأول، أين تكمن المشكلة؟ أرى أن المشكلة تكمن في عدم قدرة المؤسسة على تمييز الفارق في الأداء بين الموظفين، وغالبا ما يعود ذلك إلى عدم وجود آلية منهجية واضحة لقياس الأداء وتمييز الموظف الكفء عن الموظف المتوسط والضعيف، وبالتالي ينتهي الأمر بالمؤسسة إلى الحكم على أداء لأفراد بشكل غير موضوعي وغير عادل، الأمر الذي يكون له أثر عظيم على حالة الموظفين المعنوية وبالتالي على مستوى حافزيه الموظفين ومعدل دورانهم.
بالنسبة للسؤال الثاني، هل يعتبر هذا الموظف أصلاً قيماً من أصول المؤسسة أم يعتبر عبئاً عليها؟ أرى أن هذا الموظف يعتبر من أقوى عناصر المؤسسة بل من الأعمدة القوية التي تقوم عليها المؤسسات إذ أنه يتمتع بقدر هائل من الطاقة والمحفزات الشخصية، لا يثير المشكلات، يتعاون مع الآخرين، لا يسعى إلى مجد شخصي، يعمل بجد وكفاءة دون انتظار أي توجيه أو متابعة، وغالبا ما تكون لديه مجموعة من القيم والأخلاقيات التي تحكم سلوكه وعمله. ولكن ماذا يحدث لو أن المؤسسة لم تنظر بعين الاهتمام لهذا الموظف، ألن يأتي وقت تستنزف فيه طاقته وحينها يتدهور أداؤه وتسوء معنوياته؟ ما هو انعكاس ذلك على المؤسسة؟
كيف يتمكن هذا الموظف من تعديل وضعه وهل هي مسئوليته أم مسئولية غيره ممن حوله؟ في رأيي لن يتمكن هذا الموظف من تعديل وضعه بنفسه، فلا يمكننا أن نطلب منه تغيير شخصيته أو تعديل قناعاته وقيمه وأخلاقياته التي تعتبر في المقام الأول دافعه للأداء والإنجاز، وإنما يقع عبء تعديل وضعه وإعطائه ما يستحق من تقدير على المؤسسة بمستوياتها المختلفة بدءاً من رئيسه المباشر وانتهاءاً بالإدارة العليا التي ينبغي أن يكون أحد شواغلها الرئيسية الحفاظ على الموضوعية والعدالة وعلى أعمدة المؤسسة.
أما بالنسبة للسؤال الرابع، هل ترجع أسباب ما يعاني منه إليه أم إلى المؤسسة التي يعمل بها أم إلى رؤسائه أم إلى المجتمع المحيط به؟ أرى أن الأسباب ترجع إلى جميع ما سبق ذكره من هيئات، فالمؤسسة التي تمنح التقدير لمن يحقق المستهدفات دون النظر إلى سلوكياته وأخلاقياته وما إلى ذلك مؤسسة فاسدة مُفسِدة ترسل رسائل مشوهة لموظفيها، والمؤسسة التي تمنح التقدير للأعلى صوتاً الذي يروج لنفسه ويحصل على تأييد الآخرين لأنه يجيد لعب دور الحليف أو الداعم أو الراعي لمصلحة الشركة، لا شك أنها مؤسسة ضعيفة هشة لأن اعتمادها على هذا النوع من الأشخاص الذين في الأغلب يضعون مصلحتهم فوق مصلحتها يعتبر من قبيل المخاطرة الهائلة، لأنهم ما أن يجدوا فرصة بديلة أو مؤسسة بديلة سيتركون الجمل بما حمل.
أما بالنسبة للرئيس المباشر الذي لا يستطيع الموازنة بين حقوق المؤسسة وحقوق الموظفين والذي يتبع منهجية الإدارة الكلاسيكية التي أثبتت فشلها عوضا عن الاضطلاع بدور القائد الذي يعمل جنباً إلى جنب مع مرؤوسيه ويحميهم ويرعى مصالهم كما يرعى مصالح المؤسسة فهو من وجهة نظري مدير فاشل له أثر سلبي على المؤسسة وعلى الأفراد ويمتد أثره إلى المجتمع ككل. أما عن المجتمع المحيط فلا شك أن دوره هو الأخطر والأصعب. فهو قد يروج لمجموعة غير سليمة من القيم والأخلاقيات فتنتشر وسط أفراده وتحولهم إلى “جراد” ينزل على حقل فيأتي عليه ثم ينتقل إلى غيره، وقد يروج لمجموعة سليمة من القيم والأخلاقيات فتنتشر وسط أفراده وتحولهم إلى “نَحل” دؤوب يستفيد ويفيد بنفس القدر.
ها أنا أضع أمامكم ملخص شكوى هذا الموظف وعينة من التساؤلات التي مرت بذهني والإجابات التي توصلت إليها، فماذا ترون؟