الدكتور/ محمد أبو نار – الخبير الاقتصادي و المصرفي
وصل الاقتصاد المصري بعد ثورتين وأحداث جسام إلي حالة اقتصادية غير مسبوقة، من حيث تضاؤل نسبة نمو الناتج المحلي الاجمالي إلي 3%، وعجز الموازنة العامة إلي 11.3%، ومعدل البطالة الي 12.8%، كل هذا مع ارتفاع معدل التضخم الي 14.1% في سبتمبر 2016، ومن ثم تم تخفيض سعر الصرف الرسمي بنسبة 13% في مارس 2016، هذا مع ارتفاع فاتورة الواردات وانخفاض الاحتياطيات الدولية الي 17.1 مليار دولار في يونيو 2016.
أدي كل ذلك إلي تبني الحكومة المصرية بالتعاون مع صندوق النقد الدولي لبرنامج إصلاح اقتصادي شامل رسخ بموجبه تعويم الجنيه المصري لتحسين القدرة التنافسية الخارجية لمصر ودعم الصادرات والسياحة وجذب الاستثمارات الاجنبية المباشرة وغير المباشرة وإعادة بناء الاحتياطات الدولية. وتجدر الإشارة إلي أن برنامج الاصلاح الاقتصادي يهدف الي تقليص عجز الموازنة وإصلاح منظومة الدعم وزيادة معدلات التوظيف وتعزيز تدابير الحماية الاجتماعية لتوفير الحماية القصوي للفئات الاولي بالرعاية والتي تأثرت بالعواقب قصيرة المدي للاصلاحات الاقتصادية.
ولا يمكن تغافل أن برنامج الاصلاح الاقتصادي المنفذ لاقي اعجاب العديد من المؤسسات والوكالات الدولية مع تسارع معدلات النمو الاقتصادي ووصوله إلي معدلات كبيرة تجاوزت معدل 5% خلال السنوات اللاحقة، الي جانب احتواء التضخم مع زيادة الاحتياطيات الدولية.
لقد أثبت الاقتصاد المصري مرونته في مواجهة الصدمات الخارجية بفضل اعتماد سياسات مالية ونقدية فعالة مع التنسيق بينهم إلي التخفيف من الآثار الاقتصادية والمالية السلبية لوباء كوفيد 19، لاسيما من خلال توفير السيولة الكافية للاقتصاد رغم الاثار السلبية للوباء مدفوعة بشكل أساسي بضعف الطلب وانخفاض النمو الاقتصادي العالمي من جهة، وتباطؤ حركة الاقتصاد العالمي وانخفاض تدفق الاستثمارات الاجنبية المباشرة وغير المباشرة من جهة أخري.
وتأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، فما كاد المجتمع المصري والمواطنون أن يشعروا بثمار برنامج الاصلاح الاقتصادي الذي بدأ في عام 2016، حتي ضرب فيروس كوفيد 19 الاقتصاد العالمي والمصري في أواخر عام 2019، وهو ما أدي الي هلع كبير علي مستوي العالم مخلفا وراءه حالة من الركود الاقتصادي بسبب انخفاض حجم الطلب الكلي، والذي تسبب فيه أساسا انخفاض مستوي الاستثمار الخاص. ويمكن أن نعزي هذا جراء مخاوف المستثمرين حول العالم. وعليه فقد استجابت معظم البنوك المركزية علي مستوي العالم باتباع سياسات نقدية توسعية وانتهجت سياسات التيسير الكمي في محاولة منها لاخراج الاقتصاد العالمي من حالة الركود الذي ضربه وبقوة، وذلك في محاولة منها لتعافي مستوي الطلب الكلي العالمي أولا. ولكن مع سرعة واستمرار انتشار الفيروس اتبعت الدول الاوربية إجراءات احترازية أدت الي انخفاض حجم العرض الكلي هو الاخري، فأدي الي اختلال التوازن اكثر فأكثر بين الطلب الكلي بالزيادة والعرض الكلي بالانخفاض.
فقبل تفشي فيروس الكورونا كان الطلب الكلي متقاربا من العرض الكلي (مرحلة رواج اقتصادي)، ومع بداية ازمة كورونا صار الطلب الكلي اقل من العرض الكلي (مرحلة ركود اقتصادي)، وبعد استمرار تاثير الكورونا علي الاقتصاد العالمي مع سياسات التحفيز فقد اصبح الطلب الكلي اكبر من العرض الكلي (رواج اقتصادي مصاحب له ظاهرة الكساد التضخمي “وهو ارتفاع الاسعار مع انخفاض البيع”)، وبالتالي فإن بداية الموجة التضخمية الاولي كانت بسبب كوفيد 19 والسياسات النقدية التوسعية للبنوك المركزية العالمية.
وقد انطلق الاقتصاد العالمي عام 2022 وهو في وضع أضعف مما ورد في التوقعات السابقة، فمع انتشار سلالة “أوميكرون” الجديدة المتحورة من فيروس كوفيد 19، عادت البلدان إلي فرض قيود علي الحركة، وأدي تصاعد أسعار الطاقة والانقطاعات في سلاسل الامداد الي ارتفاع التضخم واتساع نطاقه عن المستويات المنتظرة، لاسيما في الولايات المتحدة وكثير من اقتصادات الاسواق الناشئة والاقتصادات النامية، وباتت أفاق النمو محدودة كذلك في الصين من جراء الانكماش في قطاع العقارات وبطء تعافي الاستهلاك مقارنة بالتوقعات السابقة.
واستمر اتيان الرياح بما لا تشتهي السفن، ففي 24 فبراير الماضي قامت روسيا بشن حرب شاملة علي جارتها أوكرانيا، ومع ظاهرة العولمة وازدياد الاعتماد المتبادل بين الدول فقد انتهي الزمن الذي يمكن أن تكون دولة بمنأي عن التأثر بأحداث وثورات وصراعات وحروب كبري.
وقد تأثرت مصر بسبب هذا الصراع مع ازدياد التوتر والمخاوف العالمية من نشوب حرب عالمية ثالثة، حيث تقول البيانات أن مصر في العام الماضي قد استوردت حوالي 80% من احتياجاتها من القمح والحبوب من روسيا وأوكرانيا. وكما هو معلوم فإن سعر القمح ارتفع قبل الحرب بنسبة وصلت إلي 40% بسبب تداعيات فيروس كورونا والتغيرات المناخية وبطء سلاسل الامداد، وكذلك ارتفعت أسعار معظم المحاصيل والسلع الرئيسية، وبمجرد عبور القوات الروسية الحدود الاوكرانية ارتفعت أسعار القمح بنسبة 6%، وإن كان هذا علي مستوي القمح والسلع الغذائية والطاقة. أما قطاع السياحة، فجدير بالذكر أن روسيا وأوكرانيا يمثلان وحدهما 50% من عدد السائحين الذين يصلون لمصر سنويا خصوصاً لمدينتي الغردقة وشرم الشيخ، ومع نشوب الحرب فقد تم الغاء العديد من الحجوزات من البلدين لمصر وبقية العالم.
التأثير الثالث علي مصر بعد أسعار القمح والغذاء من ناحية والسياحة من ناحية أخري، هو ارتفاع فاتورة واردات مصر من النفط بعد أن تخطي سعر البرميل الواحد أكثر من 120 دولار (سعر برميل البترول يوم 26/3/2022)، وإن استمر هذا المعدل فسوف يشعر به المواطن العادي إن آجلا أو عاجلا.
كان الله في عون القيادة السياسية والحكومة والبنك المركزي في ايجاد حلول ووضع سياسات تحول دون التأثير علي المواطن البسيط من ارتفاع الأسعار والتأثير علي مستوي المعيشة، فقد قرر البنك المركزي في 21/3/2022 عقد اجتماع استثنائي لتعويم العملة مرة ثانية (بعد المرة التي تمت في 3/11/2016)، تراجع بموجبها الجنيه المصري بنسبة 16% أمام الدولار الامريكي، مع اقرار البنك المركزي لزيادة اسعار الكوريدور بنسبة 1% ( 100 نقطة اساس)، علماً بأن اخر رفع للبنك المركزي لاسعار الفائدة كانت عام 2017، ويمكن ان نعزي رفع مصر لاسعار الفائدة (بعد فرار رفع الفائدة من مجلس الاحتياطي الفيدرالي الامريكي ومعظم البنوك المركزية حول العالم)، الي جعل الاقتصاد المصري اكثر تنافسية في مواجهة ظاهرة الدولرة والمضاربة بشراء الدولار الامريكي، في محاولة منها لمنع هروب المتبقي من الاستثمارات غير المباشرة (Hot Money) الي اسواق اخري وخاصة في ادوات الدين الحكومي، وهو ما يؤثر سلبا علي رصيد العملة الاجنبية وكذا يهدد استقرار ميزان المدفوعات، وقد ظهر هذا من خطوات البنك المركزي كالتالي:-
- مرونة سعر الصرف من الاهمية لتكون بمثابة اداة لامتصاص الصدمات والحفاظ علي القدرة التنافسية للاقتصاد المصري، وتعويم العملة واتباع نظام سعر الصرف المرن والذي يتغير طبقاً لالية السوق (طبقاً للعرض والطلب)،
- اتباع سياسة نقدية انكماشية كيفية، فالهدف هو خفض الاستهلاك وزيادة الاستثمار ويمكن تحقيق ذلك عن طريق (رفع سعر الكوريدور بمعدل بسيط حتي لا يتم التاثير علي مستوي الاستهلاك، مع طرح شهادات بأسعار فائدة مرتفعة للقطاع العائلي، لتقليل معروض النقود والمضاربة وكذا توفير دخل شهري للفئات التي تعتمد علي العائد الشهري من الشهادات كدخل لها).
- زيادة سعر العائد المدين للاقتراض علي الشهادات الموجودة بالفعل ومقاربتها من سعر الشهادات الجديدة المطروحة لتجنب كسر الشهادات السابق اصدارها ومحاولة جذب ودائع جديدة.
- دعم الشركات وقطاع الاعمال من خلال استمرار وزيادة المبادرات المقدمة للشركات وخاصة الشركات الصغيرة والمتوسطة لزيادة الانتاجية.
- واعتقد من الخطوات الهامة التي قد يلجأ لها البنك المركزي المصري خلال الفترة القادمة هو اللجوء الي صندوق النقد الدولي للحصول علي قرض رابع من صندوق النقد الدولي خلال اخر 6 سنوات، وذلك لتأثر الموارد سلبا من الدولار بعد خروج وذلك لمواجهة تداعيات الحر بالروسية الاوكرانية علي الاقتصاد المصري، حيث بدأت مصر مسيرتها في الاقتراض من الصندوق عام 2016 بحصولها علي قرض بنحو 12 مليار دولار لتمويل برنامج الاصلاح الاقتصادي، ونتيجة لتداعيات جائحة فيروس كورونا اضطرت للحصول علي قرض بآلية التمويل السريع بقيمة 2.77 مليار دولار، والقرض الثالث بقيمة 5.2 مليار دولار ضمن برنامج الاستعداد الائتماني.
وأعتقد ان الهدف الاساسي للحكومة خلال المرحلة الحالية هو استقرار الاوضاع الاقتصادية والمالية للبلاد، والعمل علي توافر السلع الاساسية للمواطنين، وكذا تنفيذ حزمة مالية متكاملة من التدابير والاجراءات التي تستهدف تقديم المساندة الكافية للقطاعات الاقتصادية والفئات الاكثر تأثراً بالصدمات الخارجية المتزامنة.