
الخبير المصرفى –أيمن سليمان
يُشكل “اقتصاد الظل” في مصر، أو ما يُعرف بالقطاع غير الرسمي تحديًا هيكليًا ضخمًا حيث تشير التقديرات الرسمية إلى أن حجمه يصل إلى حوالي 55% من الناتج المحلي الإجمالي. هذا القطاع الذي يعمل خارج الإطار القانوني والرقابي ولا يدفع ضرائب أو تأمينات اجتماعية لا يمثل مجرد نشاط عشوائي بل أصبح عاملًا رئيسيًا في إهدار مليارات الجنيهات على الخزانة العامة وتعميق أزمة عجز الموازنة.
نزيف الإيرادات: لماذا يهرب نصف الاقتصاد من الدولة؟
يتمثل الاقتصاد غير الرسمي في الأنشطة الحرفية والخدمات الفردية والمشروعات متناهية الصغر التي تعتمد على التعامل النقدي (الكاش) لتجنب التسجيل والرقابة. والهروب من القطاع الرسمي ليس ناتجًا عن دوافع غير قانونية فحسب بل هو نتيجة لجملة من الفجوات الهيكلية:
الأعباء الإدارية والمالية: يتمثل السبب الأول في تعقيد الإجراءات الإدارية وطول فترة الحصول على التراخيص، إلى جانب ارتفاع الأعباء الضريبية وتكاليف التأمينات الاجتماعية على الشركات الصغيرة.
الضرورات المعيشية: تدني مستويات الأجور في القطاع الرسمي وعدم تناسبها مع تكلفة المعيشة المرتفعة، إضافة إلى ارتفاع معدلات البطالة، يدفع الأفراد لابتكار فرص عمل ذاتية غير رسمية كـ “شبكة أمان” وحل وحيد للحصول على دخل.
المخاطر الجوهرية: منافسة مشوهة وعدالة غائبة
تتجاوز خطورة هذا القطاع مجرد ضياع الإيرادات؛ فهي تؤثر على بنية الاقتصاد ككل:
تفاقم عجز الموازنة: يضيع على الدولة تحصيل ضريبة القيمة المضافة والدخل على معظم المعاملات، مما يزيد من الحاجة إلى الاقتراض الداخلي والخارجي لتمويل الخدمات الأساسية، وبالتالي تفاقم أعباء الدين العام.
تشويه المنافسة وغياب العدالة: يخلق الاقتصاد الموازي منافسة غير عادلة مع القطاع الرسمي الذي يتحمل تكاليف الضرائب والتأمينات، بينما يستفيد العمال في القطاع غير الرسمي من الخدمات العامة دون المساهمة في تمويلها، مما يضعف الشركات الملتزمة.
الخطر الاجتماعي والصحي: يحرم العاملين من أي حماية اجتماعية أو تأمينية، كما أن غياب الرقابة على المنتجات غير الرسمية (مثل مصانع “بير السلم”) يعرّض صحة المستهلك للخطر ويفقد الثقة في المنتج المحلي.
إعاقة الشمول المالي: الاعتماد الكثيف على النقد يعيق جهود الدولة للتحول الرقمي ومكافحة غسيل الأموال.
استراتيجية الدمج: الترغيب والترهيب الرقمي
تبنت الحكومة المصرية استراتيجية شاملة تعتمد على مبدأ “الترغيب قبل الترهيب” لدمج هذا القطاع الهائل. أبرز هذه الإجراءات:
- الإصلاحات التشريعية والحوافز:
قانون المشروعات الصغيرة والمتوسطة (2020): يوفر حوافز ضريبية ضخمة للمشروعات التي توفق أوضاعها، ويقدم نظامًا ضريبيًا مبسطًا (ضريبة قطعية ثابتة) بدلاً من المحاسبة المعقدة.
قانون تيسير التراخيص الصناعية: يهدف إلى تقليل الإجراءات وإتاحة نظام الترخيص بالإخطار لبعض الأنشطة. - الشمول المالي والرقمنة (الترهيب الناعم):
رقمنة المدفوعات والتحول اللانقدي: تشجيع استخدام وسائل الدفع الإلكترونية وبطاقات “ميزة” للحد من التعامل النقدي الذي هو “وقود” الاقتصاد غير الرسمي.
الفاتورة والإيصال الإلكتروني: استخدام الميكنة لزيادة قدرة الدولة على الرصد والتتبع ورفع تكلفة التهرب الضريبي على المخالفين. - الحماية الاجتماعية:
توسيع مظلة التأمين الاجتماعي والتأمين الصحي الشامل لتشمل العاملين في القطاع غير الرسمي (كعمال اليومية والحرفيين) لمنحهم الأمان في مرحلة الشيخوخة أو عند الإصابة.
خلاصة الموضوع أن سياسة الحكومة المصرية تعتمد على بناء الثقة عبر تقديم “مكافآت” (كالحماية والتأمين والتمويل الميسر) أكبر من تكاليف الانضمام (كالضرائب)، وتذليل العقبات الإجرائية. إن النجاح في دمج هذا القطاع هو المفتاح لاستعادة نصف ثروة مصر المفقودة وتوفير التمويل اللازم للإنفاق العام بدلا من الاقتراض الذى يحمل الموازنة عبء كبير جداً .


