
الدكتور/ محمد أبونار (الخبير الاقتصادي والمصرفي)
أصبح مفهوم التنمية المستدامة من المفاهيم التي طفت على السطح في القرن الماضي – وقد تحدثت في مقال سابق عن كيفية تحقيق التنمية المستدامة عن طريق الاقتصاد الاخضر- إن التنمية المستدامة التي قد تبلورت مع أهداف الالفية الجديدة من خلال سبعة عشر هدفاً، اقتصادية واجتماعية.
وهناك العديد من الاستراتيجيات لتحقيق التنمية المستدامة على المستوي المحلي والوطني، إضافة للتنسيق على المستوي الاقليمي والدولي، وتسعى العديد من دول العالم وعلى رأسها مصر إلى تحقيق الشمول المالي كأداة لتحقيق التنمية المستدامة، وذلك من خلال التحول لنظام المدفوعات الرقمية، والعمل على زيادة النمو الاقتصادي وتعزيز الناتج المحلي الاجمالي، وخفض معدلات الفقر، وتحسين مستوى معيشة الفرد وذلك لدعم الاقتصاد الوطني ومن ثم تحقيق التنمية المستدامة واهداف الالفية الجديدة.
مفهوم الشمول المالي: –
يعتبر الشمول المالي احد الادوات الهامة لتحقيق البعد الاقتصادي للتنمية المستدامة من خلال امكانية تحقيق التمكين الاقتصادي، إذ يعنى “الشمول المالي” إتاحة جميع المنتجات المالية والخدمات البنكية حسب احتياجات كل فرد أو مؤسسة، ومن بينها: “حسابات التوفير، الحسابات الجارية، خدمات الدفع والتحويل، التأمين، التمويل والائتمان”، وغيرها من الخدمات المالية والمصرفية المختلفة، وذلك عبر القنوات الشرعية، مثل البنوك وهيئة البريد والجمعيات الأهلية وغيرهم، وبأسعار مناسبة للجميع، وسهلة الحصول عليها، مع مراعاة تامة لحماية حقوق المستهلك، بما يضمن تجميع الفئات المهمشة ماليًا من أصحاب الدخل المنخفض، للتعامل مع الجهاز المصرفي. وكذا ” نسبة الأشخاص أو الشركات التي تستخدم الخدمات المالية”، طبقاً لتعريف البنك الدولي.
أما مجموعة العشرين (G20) والتحالف العالمي للشمول المالي (AFI) فيذهب تعريفهما على أنه “الإجراءات التي تتخذها الهيئات الرقابية لتعزيز وصول واستخدام كافة فئات المجتمع، وبما يشمل الفئات المهمشة والميسورة، للخدمات والمنتجات المالية التي تتناسب مع احتياجاتهم، وأن تقدم لهم بشكل عادل وشفاف وبتكاليف معقولة.
وتعرف منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD) والشبكة الدولية للتثقيف المالي (INFE)الشمول المالي بأنه: العملية التي يتم من خلالها تعزيز الوصول إلى مجموعة واسعة من الخدمات والمنتجات المالية الرسمية والخاضعة للرقابة في الوقت والسعر المعقولين وبالشكل الكافي، وتوسيع نطاق استخدام هذه الخدمات والمنتجات من قبل شرائح المجتمع المختلفة، من خلال تطبيق مناهج مبتكرة، تشمل التوعية والتثقيف المالي، وذلك بهدف تعزيز الرفاهية المالية والاندماج الاجتماعي والاقتصادي”.
كما تعمل الخدمات المصرفية على إتاحة الفرص المناسبة لجميع الفئات لإدارة أموالهم ومدخراتهم بشكل بنكي سليم، وخضوعها للرقابة تجنبا لأي عمليات غسيل أموال أو نصب، أو فرض رسوم مجحفة ومبالغ فيها على المواطنين.
أما المجموعة الاستشارية لمساعدة الفقراء (CGAP) فتعرف الشمول المالي بأنه: وصول الأسر والشركات إلى الخدمات المالية المناسبة واستخدامها بشكل فعال، وكذا وجوب تقديم تلك الخدمات بمسئولية وبشكل مستدام في بيئة منظمة تنظيما جيدا”.
من خلال التعريفات السابقة يمكن ملاحظة المحاور الأساسية التالية التي يرتكز عليها الشمول المالي:
- الحصول على المنتجات والخدمات المالية من خلال توفير خدمات مالية رسمية ومنظمة، وقرب المسافة، والقدرة على تحمل التكاليف؛ القدرة المالية من خلال إدارة الاموال بشكل فعال، والتخطيط للمستقبل والتعامل مع الضائقة المالية.
- استخدام المنتجات والخدمات المالية من خلال الانتظام والتكرار ومدة الاستخدام.
- جودة الخدمات والمنتجات المالية حيث انها مصممة لاحتياجات العملاء.
- وتجزئة الخدمات من أجل تطويرها لجميع فئات المجتمع.
- التنظيم والرقابة الفعالين بغرض ضمان تقديم المنتجات والخدمات المالية في بيئة يسودها الاستقرار المالي.
ويضع مجلس محافظي المصارف المركزية ومؤسسات النقد العربية “تعزيز الوصول إلى التمويل والخدمات المالية في الدول العربية” في مقدمة اهتماماته، وذلك نظراً للفرص الكامنة والكبيرة التي يمكن تحقيقها من خلال تعزيز الشمول المالي لدعم التنمية الاقتصادية الشاملة والمستدامة ومواجهة تحديات البطالة وتحقيق العدالة الاجتماعية.
كما يلعب الشمول المالي دورًا رئيسيًا فيما يلي:
- مواجهة تحديات الفقر والبطالة والتنمية.
- إنه يمثل حلقة مهمة لتوليد فرص العمل والتخفيف من تأثير التقلبات الاقتصادية والمالية.
- تحقيق الشمول المالي يدعم جهود الدول العربية لتطوير البنية التحتية وخاصة البنية المالية لتحقيق الاستقرار المالي.
- تشجيع الاستثمار.
- يعمل على تحقيق الاستدامة المالية لمواجهة تحديات البطالة خاصة بين الشباب.
- تعزيز الشمول المالي ينعكس إيجابيًا في تعميق القطاع المالي والمصرفي وتعزيز استقراره وسلامته وتقوية دوره في خدمة مساعي النمو الاقتصادي الشامل.
- احتواء القطاعات غير الرسمية والاقتصاد الموازي في الاقتصاد الرسمي للدولة.
وتتخذ الدول العربية وعلى رأسها مصر العديد من الخطوات والإجراءات في سبيل النهوض بالشمول المالي، لتؤكد مجدداً ضرورة إدماج كافة فئات المجتمع وشرائحه بالنظام المالي الرسمي، خاصة الشباب والمرأة ورواد الأعمال، وقطاع المشروعات متناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة، وذلك من خلال تعزيز وصولهم واستخدامهم للخدمات والمنتجات المالية التي تتناسب مع احتياجاتهم بالتكاليف والشروط المعقولة، وحماية حقوقهم وتعزيز معرفتهم ووعيهم بالأمور المالية بما يمكنهم من اتخاذ القرار الاستثماري السليم.
وبادر مجلس محافظي المصارف المركزية ومؤسسات النقد العربية في عام 2016 إلى اعتماد يوم 27 أبريل من كل عام يوما عربيا للشمول المالي، وقد تم الاحتفال به في عام 2021 تحت شعار “الشمول المالي نحو التنمية المستدامة”، إذ أكد المجلس في هذه المناسبة، دعمه لجهود المجتمع الدولي في تعزيز الشمول المالي وارتباط ذلك بتحقيق التنمية المستدامة، وفي مقدمتها جهود مجموعة العشرين (G20) التي تبنت محور الشمول المالي كأحد المحاور الرئيسة في برنامج التنمية الاقتصادية والمالية.
وقد أدرك قادة مجموعة ال G20 خلال عام ۲۰۱۰ أهمية الشمول المالي وقاموا بتأييده كدعامة أساسية في جدول أعمال التنمية العالمية، حيث تم تأسيس رابطة باسم (Global Partnership for Financial Inclusion GPFI)، وذلك لوضع خطة عمل لسنوات عديدة بهدف تطبيق الشمول المالي من خلال دعوة مجموعة من خبراء المجال، إضافة لخمس هيئات دولية قائمة على وضع المعايير الدولية (SSBs Standard Setting Bodies) للبدء في تكثيف العمل على تطبيق الشمول المالي.
وقد تبين أن التقدم في الشمول المالي يعزز من الاستقرار المالي كما يساهم في النمو الاقتصادي، والكفاءة المالية، وذلك بخلاف الجانب الاجتماعي فيما يتعلق بتحسين الحالة المعيشية للعملاء وخاصة الفقراء منهم.
إضافة إلى ما تقدم، فقد قامت العديد من الدول بإدراج الشمول المالي كهدف من أهداف استراتيجيتها القومية. ولا شك شكلت هذه التطورات تحديات كبيرة للجهات الرقابية المالية تمثلت في النظر في كيفية المواءمة بين الشمول المالي Financial Inclusion كهدف استراتيجي جديد وبين الأهداف الثلاثة الأخرى المتعارف عليها وهي: الاستقرار المالي والنزاهة المالية والحماية المالية للمستهلك
ومن المفترض أن تقوم كل دولة بوضع التعريف الخاص بها لكل هدف من الأهداف الأربعة والذي سيتم من خلاله بناء أسس الارتباط بين الأهداف وبعضها البعض، بما يتناسب مع الأوضاع الاقتصادية والمالية والاجتماعية للدولة.
الهدف الاستراتيجي هو الشمول المالي: ويعتمد مفهوم الشمول المالي على تيسير وصول الخدمات المالية لكافة المواطنين والقدرة على الاستفادة منها من خلال تشجيعهم على إدارة أموالهم ومدخراتهم، إلى جانب الحصول على تسهيلات ائتمانية وكذا التأمين ضد الحوادث غير المتوقعة. ويشمل العوامل أو السمات التالية:
• الاهتمام الأكبر بالفقراء ومحدودي الدخل.
• الوصول إلى الأفراد والمشروعات الصغيرة والمتوسطة والمتناهية الصغر.
• توفير خدمات مالية متعددة مثل الادخار والائتمان والتأمين.
• الاهتمام بتحقيق المصلحة الكبرى والتي تتعلق بخلق فرص عمل، تحقيق النمو الاقتصادي، مجابهة الفقر، تحسين توزيع الدخل، مع إيلاء اهتمام أكبر لحقوق المرأة.
الاستقرار المالي: يعتمد مفهوم الاستقرار المالي على تيسير عملية نظام الوساطة المالية فيما بين القطاع العائلي والشركات والحكومة من خلال مجموعة من المؤسسات المالية. ويتم تحقيق ذلك من خلال:
• كفاءة البنية التحتية الرقابية.
• كفاءة الأسواق المالية.
• كفاءة وسلامة المؤسسات المالية.
النزاهة المالية: يعتمد مفهوم النزاهة المالية على مكافحة الجريمة المالية، والتي تتمثل في جرائم غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وذلك لتحقيق سلامة الاقتصاد الكلي، مما ينعكس إيجابيا على الاستقرار المالي وتوفير بيئة مناسبة لنمو الاستثمار الأجنبي.
يعد الهدف الأساسي تحقيق الشفافية للقطاع المالي من خلال مطالبة المؤسسات المالية بإجراء فحص نافي للجهالة لعملائها مع تسجيل كافة بيانات العملاء والعمليات التي يقومون بها في السجلات وإتاحتها للجهات الرقابية والإشرافية وفقا للقواعد والقوانين المعمول بها.
الحماية المالية للمستهلك: نظرا لنمو وتطور القطاع المالي وتعقيد الخدمات المالية المقدمة للعملاء، فقد حظي مفهوم الحماية المالية للمستهلك باهتمام كبير في الآونة الأخيرة. ومن أهم الأهداف المرجوة من تطبيق هذا المفهوم حصول العميل على معاملة عادلة وشفافة بالإضافة إلى حصوله على الخدمات والمنتجات المالية بكل يسر وسهولة وبتكلفة مناسبة وجودة عالية.
وتعد الحماية المالية للمستهلك صاحبة الأولوية نظراً لإدراك مدى الحاجة إلى تطوير وتحسين القطاع المالي، وبالأخص قطاع التجزئة، ويتم هذا عن طريق تخفيض المصروفات غير المبررة المفروضة على العملاء وكذا الخدمات المالية غير المناسبة التي تتم مقابل قيام العملاء بدفع عمولات.
الشمول المالي في جمهورية مصر العربية:
تتطلع مصر لأن تكون دولة رائدة في مجال المدفوعات الرقمية، بحيث تعمل على تدشين مرحلة جديدة من الشمول المالي للمواطنين باعتبارها أحد ركائز النمو والتحول للاقتصاد الرقمي وتعزيز الإصلاح الاقتصادي. ويعمل الشمول المالي على دمج الاقتصاد غير الرسمي للأفراد والمؤسسات داخل الهيكل الاقتصادي الرسمي للدولة، ويضمن تطور الخدمة التي تقدمها المؤسسات المالية المدرجة في نطاقه لتوافر عنصر التنافسية بين المؤسسات، كما يساعد في تحسين مستوى المعيشة داخل الدولة وانخفاض معدلات الفقر من خلال احتوائه شرائح معينة داخل المجتمع كالفقراء ومحدودي الدخل وأصحاب المشروعات الصغيرة والمتوسطة ومتناهية الصغر.
وتعمل الدولة علي تشجيع نظام اقتصادي غير نقدي، وهناك حراك واضح في هذا المجال لا يمكن إغفاله، ويجب ترصده وتنميته وذلك بالتزامن مع إستراتيجية التنمية المستدامة رؤية مصر “2030” التي تبنتها وزارة التخطيط، وقد تم العمل بهذه الإستراتيجية بدءا من يناير 2016، حيث تتضمن اثنا عشرة محورا وأهمها التنمية الاقتصادية والشفافية وكفاءة المؤسسات الحكومية. وفي هذا الإطار ومع قيام البنك المركزي بدوره في الإشراف على نظام الدفع والذي يهدف منه ضمان التدفق النقدي من خلال أنظمة الدفع من أجل تحقيق الاستقرار المالي نشأت عدة مبادرات في السوق المصري، والتي تعد بذور طيبة للتحول للاقتصاد غير النقدي.
الخاتمة:
يوفر الشمول المالي تقديم خدمات ومنتجات مالية متطورة وبأسعار معقولة مثل المعاملات والمدخرات والمدفوعات والتأمين والائتمان وغيرها من الخدمات المالية المختلفة بطريقة مستديمة ومسؤولة.
الوصول إلى المعاملات لا شك هو خطوة البداية للشمول المالي، فحسابها يسمح بالادخار وتبادل المدفوعات ويعتبر بمثابة بوابة لخدمات مالية أخرى، وهذا ما ركزت عليه مجموعة البنك الدولي، فقد تستخدم الخدمات المالية المختلفة في أعمال تجارية هامة وفي الاستثمارات المالية المختلفة في شتى المجالات.
وفي مواجهة الأزمات المالية، فمنذ عام 2010 قامت عدة دول بإعداد وتنفيذ استراتيجيات وطنية لتحقيق التقدم نحو الشمول المالي، وهيأت السياسات التنظيمية لذلك، وشجعت على الابتكار والمنافسة في مجال الخدمات المصرفية والمالية، وقد ساعد في ذلك التطور التكنولوجي الصارخ خاصة في السنوات القليلة الماضية، مما عمل على انتشار التكنولوجيا المالية الرقمية، والتي أدت إلى توسيع نطاق تبادل الخدمات المالية في كل مكان، وبين كل أنواع المؤسسات والشركات الكبيرة أو الصغيرة ورجال الأعمال والتجار وحتى الأفراد العاديين.