تختلف جائحة كورونا كونها أزمة اقتصادية (وليست صحية) عن مثيلاتها من الأزمات التي مر بها الاقتصاد العالمي ونسرد فيما يلى بعض الاختلافات والتي تجعلها من أصعب وأشد الأزمات الاقتصادية التي مرت بها البشرية فى العصر الحديث. فالأزمة هى أزمة طلب وأزمة عرض في نفس الوقت، أى أن الأزمة أحدثت انكماش غير مسبوق في جانبي الطلب الكلى والعرض الكلى وهو ما يصعب التعامل معها لإنها تتطلب إتخاذ إجراءات وسياسات اقتصادية لتنشيط الجانبين. وهذا الأمر يثقل كاهل الحكومات والمؤسسات الاقتصادية بحجم السياسات والإجراءات الواجب إتباعها ومن ثم تكلفتها للخروج من الأزمة وعودة الحياة الاقتصادية لطبيعتها. والأزمة لها آثار اقتصادية قصيرة ومتوسطة وطويلة الأمد، بعكس الأزمات السابقة والتي كانت قصيرة الأجل. ومما يصعب التعامل معها أن الأزمة ما زالت في تطور مستمر وغير معلوم وقت انتهائها ومستتبعاتها وطبيعة الحياة بعدها وهو ما يشكل إشكالية كبيرة لدى الحكومات فى تحديد حجم الموارد المالية المطلوبة لمواجهتها والمدى الزمنى لإنفاذ هذه السياسات ومدى تأثيرها على علاج الأزمة.
والأزمة بالرغم من أنها أصابت الاقتصاد الحقيقي وليس المالي إلا أن مستتبعاتها سوف تطول الاقتصاد المالى بشكل أو آخر فى موجة لاحقة وهو ما يجب الحذر منه. فالقطاع المالي متمثلا بالأساس فى البنوك المركزية والبنوك التجارية يقوم بمهمة توفير السيولة اللازمة الآن للخروج من الأزمة ولكن سرعان ما قد تنقلب الآية ويتعرض القطاع المالى ذاته لمشاكل بسبب عدم القدرة على تسديد الديون ويصبح القطاع المالى هو الضحية وليس المنقذ وهو الأمر الذى حذر منه الهيئات الدولية (World Bank, 2020). والأزمة تختلف أيضا عن مثيلاتها السابقة لإنها سوف تغير من نمط الحياة الإقتصادية سواء فى طرق الإنتاج أو فى عادات المستهلكين وهو ما سيتتتبعه تغيير فى نموذج العمل (business model) المتبع وطرق الإنتاج بل والمنتجات نفسها من سلع وخدمات. فالأزمة غيرت من القدرة على تحمل نسب المخاطرة لدى الأفراد والمنشآت بل وغيرت أوجه الإنفاق والأولويات. وأخيرا فإن هذه الأزمة أزمة محلية وأزمة خارجية، بمعنى أن آثارها المحلية بافتراض أنها أصابت اقتصاد مغلق لا يتعامل مع العالم الخارجى وخيمة للغاية، ويضاف أنها خارجية مما يزيد من صعوبة التعامل معها حيث أنها أصابت كل اقتصاديات العالم سواء كانت كبيرة أو صغيرة وسواء كانت غنية أو فقيرة. ويتطلب التعامل معها التنسيق والتعاون فى السياسات والإجراءات اللازمة للخروج منها وهو ما قد لا يكون متاحا فى ظل هذه الأوقات العصيبة التى استلزمت أن ينكب كل اقتصاد على نفسه ولا يلتف للعالم الخارجى. بإختصار شديد الأزمة يمكن أن يطلق عليها أنها سوف تكون السبب الرئيسى فى تغيير نمط الحياة الإقتصادية (Ghoneim, 2020a) وسنواجه بواقع جديد (new norm) بعدها.
ما قامت به حكومات العالم حتى الآن من سياسات اقتصادية يتمثل بإختصار شديد فى اتباع سياسات مالية ونقدية توسعية لانتشال القطاعات والفئات الأكثر تضررا من براثين الأزمة (stimulus package) ومساعدتها على تقليل الخسائر الناجمة عن الأزمة. فنجد مثلا قيام البنوك المركزية بضخ سيولة إضافية فى السوق وتقديم تسهيلات إئتمانية وتأجيل سداد القروض والمستحقات لفترات زمنية أطول، كما نجد قيام وزارات المالية بتقديم تحويلات وإعانات للأنشطة الاقتصادية والفئات الأكثر تضرراً وتقديم إعفاءات ضريبية وتقوية شبكة الضمان الاجتماعي وتدخلها كضامن فى كثير من الأوقات.
ومن الصعب تقييم فاعلية السياسات التى اتخذتها الدول حتى الآن وذلك لعد أسباب منها أولا أن الأزمة لم تنتهى بعد ومن ثم فما تم الإعلان عنه من خطط حكومية لمواجهة الجائحة قد يكون غير كافي لأن الأزمة ممتدة وكل يوم تحصد خسائر جديدة. ثانيا أن توقيتات صرف هذه المساعدات أمر له أهمية قصوى ومن ثم فإن مجرد الإعلان عن تقديم حزم مساعدات غير كافى فالعبرة الحقيقية بالتنفيذ السريع فى الوقت المناسب. ثالثا أن امتداد الأزمة سيولد آثار غير مباشرة وسيؤثر على قطاعات أخرى ليس بالضرورة أن تكون تأثرت بشدة فى الدورة الأولى وبالتالى فإن الأمر قد يتطلب عدم الإكتفاء بما تم إعلانه من حزم للمساعدات وقد يتطلب الإعلان عن حزم مساعدة إضافية.
بعد الإنتهاء من الأزمة الطارئة واستقرار الأوضاع الاقتصادية فسوف تضطر الحكومات فى دول العالم أجمع إلى إتباع حزمة جديدة من السياسات والتي تهدف لتنشيط جانبى الطلب والعرض الكليين بشكل يساعد الاقتصاد على الخروج من دائرة الإنكماش ويساعد على إعادة الحياة للمنشآت الاقتصادية (bailout packages). وعادة ما تأخذ شكل هذه السياسات نفس شكل السياسات السابق إتباعها فى المرحلة السابقة من حيث كونها توسعية وتهدف لزيادة السيولة وتقديم إعانات مالية مباشرة وغير مباشرة للأسر والمنشآت العاملة فى الإقتصاد. ولكن تختلف سمات هذه السياسات عن تلك السابق إتباعها فى المرحلة السابقة كما يلى: أولا من المتوقع أن تكون سياسات هذه المرحلة أكثر تحديدا فى ضوء تكشف الوضع الإقتصادى لكل قطاع على حدة ومعرفة مدى وحجم الضرر الذى تعرض له كل قطاع واحتمالية الاستمرار فى المستقبل. ثانيا من المتوقع أن تكون السياسات فى هذه المرحلة أكثر رشادة فى ظل معرفة الأوضاع المالية لكل حكومة ومعرفة توجه متغيرات وتوازنات الاقتصاد الكلى بعد انتهاء المرحلة الأولى والتى لم تكن تلعب فيها توازنات الاقتصاد الكلى الهم الأكبر للسلطات. ثالثا من المتوقع أن تكون السياسات المتبعة فى هذه المرحلة أكثر حرصا من مثيلاتها فى المرحلة السابقة لرغبة السلطات فى الحفاظ على التوازنات المالية والنقدية فى نفس الوقت (Ghoneim, 2020b).
وفى الأجل الطويل سوف تتغير السياسات والإجراءات بعيدة المدى بشكل هيكلى والتى سوف تتبعها الدول جراء أزمة كورونا. فمن المتوقع أن تقوم دول العالم أجمع، بمراجعة أولوياتها فيما يتعلق بالسياسات الصحية والسياسات الاجتماعية بشكل عام، وكذلك سوف يتغير نموذج العمل (business model). فأزمة كورونا غيرت من أنماط العمل والإنتاج من جانب وغيرت أيضا من أنماط الاستهلاك، وذلك يستدعى أن تقوم المنشآت والحكومات بتغيير نمط التفكير والإدارة بل والمنتجات. فأزمة كورونا أوضحت مزايا وعيوب نموذج العمل عن البعد كما أنها خلقت أنماط جديدة من الاستهلاك تعتمد بالأساس على تكنولوجيا المعلومات. وهذا التغيير لا بد أن يصاحبه تغيرات إجرائية وتشريعية لتتواكب مع بزوغ نموذج جديد للعمل وأنماط الاستهلاك الجديدة.
خلاصة الأمر أننا بصدد عالم اقتصادي جديد تحكمه ضوابط وسياسات مختلفة.
المراجع:
Ghoneim, Ahmed Farouk (2020a), “How COVID-19 could Shape a New World Order”, Economic Research Forum Policy Portal, available at https://theforum.erf.org.eg/2020/03/26/covid-19-shape-new-world-order/
Ghoneim, Ahmed Farouk (2020b), “Efficiency of Emergency Measures undertaken to Lessen the Effects of New Corona Virus on Economies of the Arab Countries”, The Arab Journal of Security Studies, Vol, 36, July, 2020.
World Bank (2020), “How Transparency Can Help the Middle East and North Africa”, MENA Economic Update, The World Bank Group, available at https://www.worldbank.org/en/region/mena/publication/mena-economic-update-april-2020-how-transparency-can-help-the-middle-east-and-north-africa
[1] أستاذ بقسم الاقتصاد، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، مصر، بريد إلكتروني:aghoneim@gmx.de